الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده .
وبعـــــد :
أثيرت في الأيام الماضية قضية دخول الجن بدن الإنسان ، وأن هذا مستحيل عقلا !! بسبب الاختلاف في أصل الخلقة ، إذ خلق الإنسان من طين وخلق الجن من نار ، وإن الشياطين لا تملك سوى الوسوسة ، ولم يجعل الله له سلطة على الإنسان ! وأن الأشرطة المسجلة التي تتداول والحوادث ، ليست دليلا على هذا الأمر ، فما هو الصحيح في هذه المسألة ؟
نقول بيانا للحق في هذه المسألة :
إن دخول الجان بدن الإنسان ثابت بالكتاب والسنة واتفاق أهل السنة والجماعة عليه ، والمشاهد المحسوس ، ولم يخالف في ذلك إلا المعتزلة الذين قدموا معقولاتهم وآرائهم على أدلة الكتاب والسنة وفهم السلف لهما ، وها نحن نذكر من ذلك ما تيسر :
أما من القرآن :
1- فقد قال الله تعالى : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) ( سورة البقرة 275 ).
قال القرطبي في تفسيره (ج 3 ص355 ) : ” هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن ، ورغم أنه من فعل الطبائع وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس ! “.
وقال ابن كثير في تفسير (ج 1 ص 32 ) بعد أن ذكر الآية السابقة : ” أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له ، وذلك أنه يقوم قياما منكرا ، وقال ابن عباس : آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق ” .
أما من السنة :
2- فقد جاء في الحديث الصحيح الذي يرويه النسائي : عن أبي اليسر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو: ” اللهم إني أعوذ بك من التردي والهرم والغرق والحرق وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت ” .
قال المناوي في فيضه ( ج 2 ص 148 ) في شرح عبارة (( وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت )) أي : يصرعني ويلعب بي ويفسد ديني أو عقلي ( عند الموت ) بنزغاته التي تزل بها الأقدام ، وتصرع العقول والأحلام وقد يستولي على المرء عند فراق الدنيا فيضله أو يمنعه التوبة .. إلخ .
3- وقال ابن تيمية ( مجموع الفتاوى 24/276 ) : دخول الجن في بدن الإنسان ثابــت باتفاق أهل السنة والجماعة ، وقال تعالى : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ) ( البقرة :275 )
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ” إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ” أ.هـ
4- وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل : قلت لأبي : إن أقواما يقولون : إن الجن لا يدخل في بدن المصروع! فقال : (( يا بني يكذبون ، هذا يتكلم على لسانه )) قال ابن تيمية معلقا (( هذا الذي قاله مشهور، فإنه يصرع الرجل فيتكلم بلسان لا يعرف معناه ، ويُضرب على بدنه ضربا عظيما لو ضُرب به جمل لأثر به أثرا عظيما ، والمصروع وغير المصروع ويجر البساط الذي يجلس عليه ويحول الآلات وينقل من مكان إلى مكان ويجري غير ذلك من الأمور ، من شاهدها أفادته علما ضروريا بأن الناطق على لسان الإنس ، والمحرك لهذه الأجسام جنس آخر غير الإنسان )) . ويقول رحمه الله : (( وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجن في بدن المصروع وغيره ، ومن أنكر ذلك وادعى أن الشرع يكذب ذلك فقد كذب على الشرع ، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك )).
فدخول الجن إلى جسد الإنس إذًا ثابت بالكتاب العزيز والسنة المطهرة وباتفاق أهل السنة والجماعة الذين سردنا بعضا من أقوالهم .
وأما قول الله عز وجل : ( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ) فهو لا شك دليل واضح على أن الجن لا يستطيعون أن يضروا أحدا بسحر أو بصرع أو غيره من أنواع الإيذاء أو الإضلال إلا بإذن الله ، كما قال الحسن البصري : من شاء الله سلطهم عليه ومن لم يشأ لم يسلط ولا يستطيعون من أحد إلا بإذن الله كما قال الله تعالى . فالشيطان ( وهو الجني الكافر ) قد يسلط على المؤمنين بذنوبهم وبعدهم عن ذكر الله وتوحيده وإخلاص العبادة له ، وأما عباد الله الصالحين فلا قدوة له عليهم كما قال تعالى : ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا) ( الإٍسراء :65 ) .
وقد كانت العرب في الجاهلية تعرف ذلك جيدا ، وتتداوله في أشعارها ، فقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله :
وتصبح عن غب السري وكأنما ألم بها من طائف الجن أولق
والأولق : شبه الجنون .
أما أسباب الصرع : فقد بين ابن تيمية ( مجموع الفتاوى :19/39) ذلك بقوله : ” إن صرع الجن للإنس قد يكون عن شهوة وهوى وعشق كما يتفق للإنس مع الإنس .. .. وقد يكون وهو الأكثر عن بغض ومجازاة مثل أن يؤذيهم بعض الإنس أو يظنوا أنهم يعتمدوا أذاهم إما يبول على بعضهم وإما يصب ماءً حارا وإما بقتل بعضهم ، وإن كان الإنس لا يعرف ذلك ، وفي الجن جهل وظلم فيعاقبونه بأكثر مما يستحقه ، وقد يكون عن عبث منهم وشر بمثل سفهاء الإنس ” انتهى .
أقول : ولعل النجاة من ذلك هو ذكر الله والتسمية عند بدء الأمور كلها ، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم التسمية وذكر الله عند أمور كثيرة ، مثل أكل الطعام وشرب الشراب ، وعند ركوب الدابة ، وعند وضع الثياب لقضاء الحاجة ، وعند دخول البيت ، وعند الجماع وغيرها من الأمور ….
وأما عن علاج الصرع والمس : فيقول شيخ الاسلام ابن تيمية ( كما في مجموع الفتاوى 19/42 ) : ” والمقصود أن الجن إذا اعتدوا على الإنس أخبروا بحكم الله ورسوله ، وأقيمت عليهم الحجة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، كما يفعل بالإنس ، لأن الله يقول ( وَمَا كُنَّا مُعَذَّبِينَ حَتَى نَبْعَثَ رَسُولا) .
وقال : ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا ؟ ) .
ثم قال : وإذا لم يرتدع الجني بالأمر والنهي والبيان ، فإنه يجوز نهره وسبه وتهديده ولعنه ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الشيطان ، عندما جاء بشهاب ليرميه في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام : ” أعوذ بالله منك ، ألعنك بلعنة الله – ثلاثا “. رواه البخاري الى آخر كلامه رحمه الله .
ويستعان عليه أيضا : بذكر الله وقراءة القرآن ، وخاصة قراءة آية الكرسي فقد قال صلى الله عليه وسلم : ” فإنه من قرأها لن يزال عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح ” البخاري . وقراءة آخر آيتين من سورة البقرة والمعوذتين كذلك وغيرها من الآيات الكريمة .
وأما الطبيب النفساني الذي لا يعتمد على ما ذكرنا في علاجه للمصروع الصرع الروحاني وليس الصرع العضوي بسبب مرض في الرأس ونحوه ، فإنه لن ينفع المصروع بشيء .
والمسألة تحتمل البسط أكثر من ذلك ، وفيما ذكرناه كفاية للمتبع .
والله سبحانه أعلم ،،،
والحمد لله رب العالمين .