ليس أسوأ من الاستبداد ورعايته سوى إسباغ الشرعية الدينية عليه، لا أقصد المحاولة الزائفة التي يحاولها علماء السلطة المتملقون، فأمثال هؤلاء لهم حديث آخر، ولكنني أقصد العلماء الطيبين الذين يكتوون بنيران السلطات المستبدة، ويطاردون منهم كما تطارد الكلاب الضالة، ثم  يكونون أشد ما يكون في منعهم أي ثورة ضدهم بسبب عدد من الأحاديث.

لا ينقضي عجبي من هؤلاء المشايخ كيف لم يستشكلوا هذه الأحاديث التي فهموا منها أنها جاءت لتمثل درعا واقيا ضد محاولات اختراق النظم الاستبدادية متى كانوا يؤدون الصلاة، ألا تستشكل هذه الأحاديث بمثل قوله تعالى: “فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ  [الزخرف/54]. فجعل القرآن طاعة فرعون فسقا، وكيف يقرأون قول ربنا (واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارًا). (نوح: 21).وعن قوم هود: (واتبعوا أمر كل جبار عنيد). (هود: 59). فاعتبر القرآن سير المظلوم في ركاب الظالم واستكانته له مما يقتضي الذم والتوبيخ.

ثورة السلف الصالح ضد الفساد

وكيف يفهم هؤلاء  الحرب التي خاضها عبد الله بن الزبير ضد عبد الملك بن مروان وأبيه؟ وكيف يتأولون ثورة الفقهاء ضد الحجاج بن يوسف الثقفي؟ وكيف يتأولون ما فعلته مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها بقية الصحابة والتابعون من السلف الأول من خلعها بيعة يزيد بن معاوية لما بلغهم ما يتعمده من الفساد حتى دارت الحرب العظيمة بها عام 63 هـ.

وكيف يتأولون قبل كل هذا خروج أصحاب الجمل (طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم) على علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، مع أنه سبق أن بايعوه؟ ولماذا لما يجابههم علي بن أبي طالب بهذه الأحاديث التي تحرم الخروج إلا على الكافر؟ لماذا لم يقل لهم: ارجعوا؛ فإني لم أكفر؟!

أحاديث أسيء فهمها

ولنذكر تلك الأحاديث التي يعتمد عليها هؤلاء الطيبون، ثم نتحدث عنها. مرد هذه الأحاديث ترجع إلى ثلاثة، هي:

-في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت قال: “بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم. وفي رواية: وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان”

– في صحيح مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنهما “يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس “قال حذيفة: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع الأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع”.

– عند أبي داود من حديث أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: “كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف يعني القبر قلت الله ورسوله أعلم أو قال ما خار الله لي ورسوله، قال عليك بالصبر أو قال تصبر ثم قال لي يا أبا ذر قلت لبيك وسعديك قال كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت قد غرقت بالدم؟ قلت ما خار الله لي ورسوله، قال عليك بمن أنت منه قلت يا رسول الله أفلا آخذ سيفي وأضعه على عاتقي قال شاركت القوم إذن قلت فما تأمرني قال تلزم بيتك قلت فإن دخل علي بيتي قال فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ثوبك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه”.

أخذ هؤلاء الطيبون من هذه الأحاديث أن الخروج على الحاكم لا يكون إلا عند كفر الحكام كفرا بواحا، وأنهم مهما أتوا من فساد واستبداد وظلم وعسف وسجن وترويع وقتل واغتصاب وسرقة وتجويع وتنكيل لا يجوز الخروج عليهم!

وخير ما  يرد به على هؤلاء ما قاله العلامة ابن حزم من قديم، قال مسفها مذهبهم، ومبطلا رأيهم: …يقال لهم: ما تقولون في سلطان جعل اليهود أصحاب أمره والنصارى جنده، وألزم المسلمين الجزية، وحمل السيف على أطفال المسلمين، وأباح المسلمات للزنا، وحمل السيف على كل من وجد من المسلمين، وملك نساءهم وأطفالهم، وأعلن العبث بهم- وهو في كل ذلك مقر بالإسلام معلنا به لا يدع الصلاة؟!

فإن قالوا: لا يجوز القيام عليه. قيل لهم: إنه لا يدع مسلما إلا قتله جملة وهذا إن ترك أوجب ضرورة ألا يبقى إلا هو وحده وأهل الكفر معه[1] فإن أجازوا الصبر على هذا خالفوا الإسلام جملة وانسلخوا منه.

وإن قالوا: بل يقام عليه ويقاتل -وهو قولهم- قلنا لهم: فإن قتل تسعة أعشار المسلمين أو جميعهم إلا واحدا منهم وسبي من نسائهم كذلك وأخذ من أموالهم كذلك؟ فإن منعوا من القيام عليه تناقضوا، وإن أوجبوا سألناهم عن أقل من ذلك ولا نزال نحيطهم إلى أن نقف بهم على قتل مسلم واحدا أو على امرأة واحدة أو على أخذ مال أو على انتهاك بشرة بظلم، فإن فرقوا بين شيء من ذلك تناقضوا وتحكموا بلا دليل، وهذا مالا يجوز.

وإن أوجبوا إنكار كل ذلك رجعوا إلى الحق ونسألهم عمن غصب سلطانه الجائر الفاجر زوجته وابنته وابنه ليفسق بهم أو ليفسق به بنفسه أهو في سعة من إسلام نفسه وامرأته وولده وابنته للفاحشة أم فرض عليه أن يدفع من أراد ذلك منهم؟ فإن قالوا: فرض عليه إسلام نفسه وأهله أتوا بعظيمة لا يقولها مسلم، وإن قالوا: بل فرض عليه أن يمتنع من ذلك ويقاتل رجعوا إلى الحق ولزم ذلك كل مسلم في كل مسلم وفي المال كذلك. [2]

ثم إن تلك الأحاديث تقابلها أحاديث أخرى، تدعو إلى جهاد هؤلاء الحكام، منها:

-“إنه سيلي أموركم من بعدي رجال يطفئون السنة و يحدثون بدعة ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها . قال ابن مسعود: كيف بي إذا أدركتهم ؟ قال: ليس – يا ابن أم عبد -طاعة لمن عصى الله . قالها ثلاثا “.[3]

-في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل”.

-وهذا حذيفة الذي روى حديث: “تسمع وتطيع الأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع ”  يقول: “يا أيها الناس ألا تسألوني؛ فإن الناس كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر أفلا تسألون عن ميت الأحياء؟ فقال: إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه و سلم فدعا الناس من الضلالة إلى الهدى ومن الكفر إلى الإيمان، فاستجاب له من استجاب فحيى بالحق من كان ميتا ومات بالباطل من كان حيا، ثم ذهبت النبوة، فكانت الخلافة على منهاج النبوة، ثم يكون ملكا عضوضا، فمن الناس من ينكر بقلبه ويده ولسانه والحق استكمل، ومنهم من ينكر بقلبه ولسانه كافا يده وشعبة من الحق ترك، ومنهم من ينكر بقلبه كافا يده ولسانه وشعبتين من الحق ترك، ومنهم من لا ينكر بقلبه ولسانه فذلك ميت الأحياء”[4] فها هو في هذا الحديث يذكر أن من ينكر بالقلب واليد واللسان هو فقط الذي استكمل  الحق، وأن من لم ينكر بشيء من ذلك فهو ميت الأحياء!

خروج الفقهاء على عبد الملك بن مروان

وأين هذا الفقه الأعوج من مائة وثلاثة وثمانين ألف رجل خرجوا على الحجاج وسيده عبد الملك بن مروان في دير الجامجم سنة 82هــ، يقول ابن كثير: “ووافقه- أي ابن الأشعث- على خلعهما جميع من في البصرة من الفقهاء والقراء والشيوخ والشباب”[5] وكان معهم سعيد بن جبير وطلق بن حبيب وغيرهم من الفقهاء.

الثورات السلمية ليست خروجا على الحكام

على أن الثورات التي قامت في تونس ومصر وتقوم الآن في عدد آخر من الدول العربية، بدأت بمظاهرات واحتجاجات، ثم سرعان ما انتهت إلى مظاهرات عارمة تطالب بإسقاط الأنظمة المستبدة الظالمة..هذه المظاهرات لا علاقة لها بهذا السجال الفقهي البتة لسببين اثنين:

الأول:  أنها تغيير سلمي، وتلك الأحاديث تتحدث عن الخروج المسلح، فما علاقة هذه المظاهرات بالخروج على الحاكم الذي تحدثت عنه الكتب الفقهية ومدونات السنة؟

الثاني:  أن تلك الأحاديث وأحكام الفقهاء تتحدث عن ولي الأمر الذي آلت إليه السلطة بطريق شرعي، وهو الانتخاب من قبل الشعب، دون إكراه أو تزوير، وهذا لم يحدث في هذه الدول التي قامت وتقوم فيها الثورات الآن، فكيف تنزل هذه الأحاديث والأحكام التي تتحدث عن الحكام الشرعيين، الذين ربما أخطئوا خطأ أو خطأين.. كيف تنزل في حق مجموعة  من المزورين الذين زوروا إرادة الأمة على مسمع ومرأى من العالم كله.

المجامع الفقهية وشرعية التظاهر السلمي

وهذا هو ما انتهت إليه المجامع الفقهية من أن المظاهرات السلمية جائزة شرعا، ففي الدورة الرابعة من دورات مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا الشمالية، جاء القرار التالي بشأن التظاهر ومدى مشروعيته:

وهو في الإطار الذي تقرره له المجتمعات الغربية يمكن أن يكون وسيلة من وسائل الاحتساب وتحقيق الصالح العام، ولا سيما إذا تعين في بعض المواقع أو في بعض المواقف وسيلة إلى تحقيق هذا المقصود مع ضرورة الاجتهاد في تقليل مفاسده قدر الوسع والطاقة.

[1] – كما يفعل السفاح الليبي وقت كتابة هذه السطور.

[2] – الفصل في الملل والنحل لابن حزم ( 4/135)

[3]  صحيح ، انظر السلسلة الصحيحة ، حديث رقم :  (6/363)

[4] –  حلية الأولياء لأبي نعيم مسندا ( 1/274)

[5] – البداية والنهاية (9/167)

الشيخ حامد العطار
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين